فصل: فصل في وصايا في وجوب حفظ الأوقات والأعمار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في وصايا في وجوب حفظ الأوقات والأعمار:

وفِي وَصِيَّةِ الإِمَامِ المُوَفَّقِ ابنِ قُدَامَهَ مَا لَفْظُهُ: فاغْتَنِمْ رَحِمَكَ اللهُ حَيَاتَكَ النَّفِسْيَةَ واحْتَفِظْ بأَوْقَاتِكَ العَزِيْزَةِ واعْلَمْ أنَّ مُدَّةَ حَيَاتِكَ مَحْدُوْدَةٌ وأَنْفَاسَكَ مَعْدُوْدَةٌ فكُلُ نَفَسٍ يَنْقُصُ بِهِ جُزْءُ مِنْكَ والعُمْرُ كُلُّهُ قَصِيْرٌ والبَاقِي مِنْهُ هُوَ اليَسِيْرُ وَكُلُ جُزْءٌ مِنْهُ جَوَهَرَةٌ نَفِسْيَةٌ لاَ عِدْلَ لَهَا والبَاقِي مِنْهُ هُوَ اليَسِيْرُ وَكُلُ جُزْءٌ مِنْهُ جَوَهَرَةٌ نَفِسْيَةٌ لا عِدْلَ لَهَا ولاَ خَلفَ مِنْهَا فإِنَّ بِهَذِهِ الحَيَاةِ اليَسِيْرَةِ خُلُودُ الأَبَدِ فِي النَّعِيْمِ أَوْ الْعَذَابِ الأَلِيْمِ.
وإذا عَادَلْتَ هَذِهِ الحَيَاةَ بِخُلُودِ الأَبَدِ عَلِمْتَ أَنَّ كُلَّ نَفَسٍ يُعَادِلُ أكْثَرَ مِنْ أَلفِ أَلفِ عَامٍ فِي نَعِيْمِ لاَ خَطَرَ لَهُ أَوْ خِلافَ ذَلِكَ ومَا كَانَ هَكَذَا فَلاَ قِيْمَةَ لَهُ فَلاَ تُضَيِّعَ جَوَاهِرَ عُمْرِكَ النَّفِسْيَةَ بِغَيْرِ عَمَل وَلاَ تُذْهِبْهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ واجْتَهِدْ أَنْ لاَ يَخْلُو نَفَسٌ مِنْ أَنْفَاسِكَ إِلاَّ فِي عَمَلِ طَاعَةٍ أَو قُرْبَةٍ تُقَرِّبُ بِهَا فإِنَّكَ لَوْ كَانَ مَعَكَ جَوْهَرَةٌ مِنْ جَوَاهِرِ الدُنْيَا لَسَاءَكَ ذَهَابُهَا فَكَيْفَ تُفَرَّطُ فِي سَاعَاتِكَ وكَيْفَ لاَ تَحْزَنُ عَلَى عُمُرِكَ الذَّاهِبِ بِغَيْرِ عِوَضٍ انتهي.
وعَنْ عُمَرَ بنِ ذَرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ اعْمَلُوا لأِنْفُسِكُمْ رَحِمَكُم اللهُ فِي هَذَا اللَّيلِ وَسَوَادِهِ، فإِنَّ المَغْبُوْنَ مَنْ غُبِنَ خَيْرَ اللَّيلِ والنَّهَارِ، والمَحْرُوْمُ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهُمَا، إِنَّمَا جُعِلا سَبِيْلاً لِلْمُؤْمِنِينَ إِلى طَاعَةِ رَبّهم، وَوَبَاِلاً عَلَى الآخَرِيْنَ لِلغَفْلَةِ عَنْ أَنْفُسِهِم فأَحْيُوا للهِ أَنْفُسَكُمْ بذِكْرِهِ، فإنَّمَا تَحْيَا القُلُوبُ بِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
كَمْ مِنْ قَائِمٍ للهِ جَلَّ وَعَلا فِي هَذَا اللَّيلِ قَدْ اغْتَبَطَ بقِيَامِهِ فِي ظُلْمَةِ حُفْرَتِهِ وَكَمْ مِنْ نَائِمٍ فِي هَذَا اللَّيلِ قَدْ نَدِمَ عَلَى طُوْلِ نَوْمَتِهِ عِنْدَمَا يَرَى مِنْ كَرَامَةٍ اللهِ لِلْعَابِدِيْنَ غَداً فاغْتَنِمُوْا مَمَرَّ السَّاعَاتِ واللَّيَالِي والأَيَّامِ رَحِمَكُم الله وَرَاقِبُوا اللهَ جَلَّ وَعَلا فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ودَاوِمُوْا شُكْرَهُ.
قَالَ مُحَمَّد بنُ عَلي الترمذيُ اجْعَل مُرَاقَبَتَكَ لِمَنْ لاَ تَغِيْبُ عَنْ نَظَرِهِ إِلَيْكَ واجْعَلْ شُكْرَكَ لِمَنْ لاَ تَنْقَطِعُ نِعْمَتُهُ عَنْكَ واجْعَلْ خُضُوْعَكَ لِمَنْ لاَ تَخْرُجُ عَنْ مُلْكِهِ.
وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: العَبْدُ مِنْ حِيْنِ اسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ فِي هَذِهِ الدَارِ فَهُوَ مُسَافِرٌ فِيْهَا إِلى رَبِّهِ، وَمُدَّةُ سَفَرِهِ عُمْرُهُ والأيَّامُ واللَّيالِي مَرَاحِلُ فَلاَ يَزَالُ يَطْوِيْهَا حَتّى يَنْتَهِِي السَّفَرُ، فالكَيِّسُ لاَ يَزَالُ مُهْتَماً بِقَطْعِ المَرَاحِلِ فِيْمَا يُقَرَّبُهُ إِلى اللهِ لِيَجِدَ مَا قَدَّمَ مُحْضَراً ثُمَّ النّاسُ مُنْقَسِمُونَ إِلى أقْسَامٍ، مِنْهُمْ مَنْ قَطَعَهَا مُتَزَوَّداً بِمَا يُقَرَّبُهُ إِلى دَارِ الشَّقَاءِ مِنْ الكُفْرِ وَأَنْوَاعِ المَعَاصِيْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَهَا سَائِراً فِيْهَا إِلى اللهِ وإِلى دَارِ السَّلامِ، وَهُمُ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: سَابِقُوْنَ أدُّوْا الفَرَائِضَ وأَكْثَرُوْا مِنْ النَّوَافِل بأنْوَاعِهَا، وَتَرَكُوْا المَحَارِمَ، والمَكْرُوْهَاتِ وفُضُولِ المُبَاحَاتِ، ومُقْتَصِدُوْنَ أَدَّوْا الفَرَائِضَ وتَرَكُوْا المَحَارِمَ، وَمِنْهُمْ الظَالِمُ لِنَفْسِهِ الَّذِي خَلَطَ عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيّئاً وهُمْ فِي ذَلِكَ دَرَجَاتٍ يَتَفَاوَتُوْنَ تَفَاوُتاً عَظِيْماً اهـ.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: النَّاس مُنْذُ خُلِقُوا لَمْ يَزَالُوْا مُسَافِرِيْنَ لَيْسَ لّهُمْ حَطٌ عَنْ رِحَالِهم إِلا فِي الْجَنَّةِ أَو النَّارِ والعَاقِلُ يَعْلَمُ أَنْ السّفَرَ مبْنِيٌ عَلَى المَشَقَّةِ وَرُكُوبِ الأَخْطَارِ وَمِنَ المُحَالِ عَادَةً أَنْ يُطْلَبَ فِيْهِ نَّعِيمٌ، ولَذَةٌ وَرَاحَةٌ إِنَّمَا ذَلِكَ بَعْدَ اْنِتِهَاءِ السَّفَرِ وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ وَطْأَةِ قَدَمٍ أَوْ كُلَّ آنٍ مِنْ آنَاتِ السَّفَرِ غَيْرَ وَاقِفَةٍ وَلاَ المُكَلَّفُ وَاقِفٌ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ سَافَرَ عَلَى الحَالِ التِي يُحُبُ أَنْ يَكُوْنَ المُسَافِرُ مِنْ تَهْيِئَةِ الزَّادِ المُوْصِلِ وَإِذَا نَزَلَ أَوْ نَامَ أَوْ اسْتَرَاحَ فَعَلَى اسْتِعْدَادٍ.
أَنْتَ المُسَافِرُ والدُّنْيَا الطَرِيقُ وَأَنْ ** فَاسٌ خُطَاكَ وَرَأْسُ المَرْءِ إِيْمَانُ

فَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ تَقْوَى اللهِ مَدْرَجَةً ** فَلِلإِسَاءَاتِ قُطَّاعُ وأَعْوَانُ

يَا قَومُ دُنْيَاكُمُوْا دَاٌر مُزَوَّقَةٌ ** لَكِنْ لَهَا وُضِعَتْ فِي الرَّمْلِ أَرْكَانُ

بِهَا سُقُوفٌ بِلاَ أُسٍ مُزَخْرَفَةٌ ** وكَيْفَ يُبْنِيَ بِغْيْرِ الأُسِّ بُنْيَانُ

كَمْ فَاتِحٍ عَيْنَهُ فِيْهَا تَخَطَّفَهُ ** أيْدِي الرَّدَى قَبْلَ أَنْ تَنْضَمَّ أَجْفَانُ

هِيَ السَّرَابُ وَمَاءُ الوَجْهِ تُرْهِقُهُ ** وَلاَ يَرَى فِيْهِ وَجْهَ المَاءِ عَطْشَانُ

رَحّى يَدُوْرُ دَقِيْقٌ شَأْنَهُ عَجَبٌ ** غَدَا لِكُلِّ خَلِيْلٍ وَهُوَ طَحَّانُ

يَسُرُّ كُلُّ فَتَّى طُوْلُ الزَّمَانِ بِهِ ** ولِلْفَتَى حَاصِلُ الأزْمَانِ إِزْمَانُ

وَقَالَ ابْنُ القَيْمِ رَحِمَهُ اللهُ: وعِمَارَةُ الوَقْتِ الاشْتِغَالُ فِي جَمِيعِ آنَائِهِ بِمَا يُقَرِبُ إِلى اللهِ أوْ يُعِيْنُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ أوْ مَنْكَحٍ أَوْ مَنَانٍ أَوْ رَاحَةٍ فأنَّهُ مَتَى أَخَذَهَا بِنِيَّةِ القُوَّةِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَتَجَّنَب مَا يُسْخِطُهُ كَانَتْ مِنْ عِمَارَةِ الوَقْتِ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيْهَا أَتَمَّ لَذَّةٍ فَلاَ تَحْسَبْ عِمَارَةَ الوَقْتِ بِهَجْرِ اللَّذَاتِ وَالّطيَّبَاتِ فالمُحِبُ الصَّادِقُ رُبَّمَا كَانَ سَيْرُهُ القَلْبِي فِي حَالِ أَكْلِهِ وشُرْبِهِ وجِمَاعِ أَهْلِهِ وَرَاحَتِهِ أَقْوَى مِنْ سَيْرِهِ البَدَنِي فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: والْعَبْدُ إِذَا عَزَمَ عَلَى فِعْلِ أَمْرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَوَّلاً هَلْ هُوَ طَاعَةٌ للهِ أمْ لاَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَاعَةً فَلاَ يَفْعَلَهُ إِلاَّ أنْ يَكُونَ مُبَاحاً يَسْتَعِيْنُ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وحِيْنَئِذٍ يَصِيْرُ طَاعةً فَإذَاً بَانَ لَهُ أَنَّهُ طَاعَةٌ فَلاَ يُقْدِمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْظُرَ هَلْ هُوَ مُعَانٌ عَلَيْهِ أَمْ لاَ فِإنْ لَمْ يَكُنْ مُعَاناً عَلَيْهِ فلا يُقْدِمْ عَلَيْهِ فَيُذِلَ نَفْسَهْ وإِنْ كَانَ مُعَاناً عَلَيْهِ بَقِيَ عَلَيْهِ نَظَرٌ وهُوَ أنْ يَأْتِيَهْ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ أَضَاعَهُ أَوْ فَرَّطَ فِيْهِ أَوْ أَفْسَدَ مِنْهُ شَيْئاً فَهَذِهِ الأُمُوْرُ الثلاَثةُ: الطَّاعَةُ والإِعَانَةُ والهِدَايَةُ أَصْلُ سَعَادَةِ العَبِْد وفَلاَحِهِ.
وَهَوَ مَعْنَي قَولِ الْعَبِْد لِرَبَّهِ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ فأَسْعَدُ الخَلْقِ أَهْلُ هَذِهِ العِبَادَةِ والاسْتِعَانَةِ والهِدَايةِ إَلى المَطْلُوبِ وأشقَاهُمْ مَنْ عَدِمَ الأُمُوْرَ الثلاثَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ نَصِيْبٌ مِنْ إيَّاكَ نَعْبُدُ ونَصِيْبُهُ مِنْ إِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ مَعْدُوْمٌ أَوْ ضَعِيْفٌ فَهَذَا مَخْذُوْلٌ مَهِيْنٌ مَحْزُوْنُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ نَصِيْبُهُ مِنْ إِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ قَوِياً ونَصِيْبُهُ مِنْ إيَّاكَ نَعْبُدُ ضَعِيْفاً أَوْ مَفْقُوْداً فَهَذَا لَهُ نُفُوذٌ وَتَسَلُّطٌ وَقُوَّةٌ ولكِنْ لاَ عَاقِبَةَ لَهُ بَلْ عَاقِبَتُهُ أَسْوَءُ عَاقِبَةً.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ نَصِيْبٌ مَنْ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ ولَكِنْ نَصِيْبُهُ مَنْ الهِدَايَةِ إَلى المَقْصُوْدِ ضَعِيْفٌ جِداً كَحَالِ كَثِيْرٍ مِنْ العِبَادِ والزُهَادِ الَّذِيْنَ قَلَّ عِلْمُهُمْ بحَقَائِقِ مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم مَنَ الهُدَى والتُقَى.
مَا الفَخْرُ إِلاَّ لأَهْلِ العِلْمِ العلم إِنَّهُمُوا ** عَلَى الهُدَى لِمنْ اسْتَهْدَى أَدلاَّءُ

وَقِيَمةُ المَرْءِ مَا قَدْ كَانَ يُحْسِنُهُ ** وَالجَاهِلُونَ لأَهْلِ العِلْمِ أَعْدَاءُ

فَعِشْ بِعِلْمٍ تَفُزْ حَياً بِهِ أَبَداً ** النَّاسُ مَوْتَى وأهْلُ العِلْمِ أَحْيَاءُ

اللَّهُمَّ اِجْعَلْ إيْمَانَنَا بِكَ عَمِيْقَاً وسَهِلْ لَنَا إِلى مَا يُرْضِيْكَ طَرِيْقاً وألطُفْ بِنَا يَا مَوْلاَنََا وَوَفِقْنَا لِلْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ تَوْفِيْقَاً وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: أَقَامَ اللهُ سُبْحَانهَ ُهَذَا الخَلْقَ بَيْنَ الأَمْرِ والنَّهْي والعَطَاءِ والمَنْعِ فافْتَرَقُوْا فِرقتَيْنِ، فِرقَهً قَابَلَتْ أَمْرَهُ بالتَّرْكِ، وَنَهِيَهُ بالاِرْتِكَابِ، وَعَطَاءَهُ بِالغَفْلَةِ، عَنْ الشُكْرِ ومَنْعَهُ بِالسُّخْطِ وهَؤُلاَءِ أَْعْدَاؤُهُ، وفِيْهِمْ مِنَ العَدَاوَةِ بِحَسَبِ مَا فِيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ.
وقِسْمً قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ عَِيْدُكَ، فإِنْ أَمَرْتَنَا سَارَعْنَا إِلى الإِجَابَةِ، وإِنْ نَهَيْتَنَا أَمْسَكْنَا نُفُوسَنَا وكَفَفْنَاهَا عَمَّا نَهَيْتَنَا عَنْهُ وإِنْ أعْطَيْتَنَا حَمِدْنَاكَ وشَكَرْنَاكَ، وإِنْ مَنَعْتَنَا تَضَرَّعْنَا إِلْيكَ وذَكَرْنَاكَ، فَلَيسَ بَيْنَ هَؤُلاَءِ وبَيْنَ الجَنَّةِ إِلاَ سِتْرُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فإِذَا مَزَّقَهُ عَلَيهِم المَوتُ، صَارُوا إِلى النَّعِِْيِم المُقِيْمِ وقُرَّةِ العَيْنِ، كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ النّارِ إِلاَ سِتْرُ الحَيَاةِ، فإِذَا مَزَّقَهُ المَوتُ صَارُوا إِلى الحَسْرةِ والأَلَمِ.
فَإذَا تَصَادَمَتْ جُيُوشُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ فِي قَلْبِكَ وأَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ مِنْ أَيّ الفَرِيْقَينِ أَنْتَ، فَانْظُرْ مَعَ مَنْ تَمِيْلُ مِنْهُمَا، ومَعَ مَنْ تُقَاتِلُ، إذْ لاَ يَمْكِنُكَ الوُقُوفُ بَيْنَ الجَيْشَيْنِ، فأَنْتَ مَعَ أَحَدِهِمَا لاَ مَحَالَةَ.
فَفَرِيقٌ مِنْهُمْ اسْتَغَشُّوْا الهَوَى فَخَالَفُوهُ، واسَتَنْصَحُوْا العَقْلَ فَشَاوَرُهُ، وفَرَّغُوا قُلُوبَهُمْ لِلْفِكْرِ فِيْمَا خُلِقُوْا لَهْ، وَجَوَارِحَهُم لِلْعَمَلِ بِمَا أُمِرُوْا بِهِ، وَأَوْقَاتَهم لِعِمَارَتِهَا بِمَا يَعْمُرُ مَنَازِلَهُمُ فِي الآخِرَةِ، واسْتَظْهَرُوْا عَلَى سُرْعَةِ الْعَمَلِ بالمُبَادَرَةِ إِلى الأَعْمَالِ، وسَكَنُوا الدُّنْيَا وقُلُوبُهُمْ مُسَافِرَةٌ عَنْهَا، واسْتَوْطَنُوا الآخِرَةَ قَبْلَ انْتِقَالِهِم إِلَيْهَا.
واهْتَمُّوْا بِاللهِ وطَاعَتِهِ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَزَوَّدُوْا لِلآخِرَةِ عَلَى قَدْرِ مَقَامِهِمْ فِيْهَا، فَجَعَلَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ مِنْ نَعِيْمِ الْجَنَّةِ وَرَوْحهَا أنْ آنَسَهُمْ بِنَفْسِهِ، وَأقْبَلَ بقُلُوبِهِمْ إِلَيْهِ، وَجَمَعَهَا عَلَى مَحَبَّتِهِ، وشَوَّقَهُمْ إِلى لِقَائِهِ وَنَعَّمَهُمْ بقُرْبِهِ، وَفَرَّغَ قُلُوبَهُمْ مِمَّا مَلأ قُلُوبَ غَيْرِهِمْ مِنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا والهَمَّ والحُزْنِ عَلَى فَوْتِهَا، والغَمَّ مِنْ خَوْفِ ذَهَابِهَا، فاسْتَلاَنُوْا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُوْنَ، وأَنِسُوْا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجَاهِلُونَ، صَحِبُوا الدُّنْيَا بأَبْدَانِهِمْ والملأ الأَعْلَى بأَرْوَاحِهِمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِر:
وَصَاحَبُوْهَا بأَبْدَانٍ قُلُوبُهُمُ ** طَيْرٌ لَهَا فِي ضِلاَلِ العَرْشِ أوْكَارُ

فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ سَيَّدُ عَمَلِهِ وطَرِيْقُهُ الّذِي يَعُدُّ سُلُوْكَهُ إِلى اللهِ طَرْيقَ العِلْمِ والتَّعْلِيمِ قَدْ وَفَّرَ عَلَيْهِ زَمَانَهُ مُبْتَغِياً بِهِ وَجْهَ اللهِ فَلاَ يَزَالُ كَذَلِكَ عَاكِفاً عَلَى طَرِيقِ العِلْمِ والتَّعْلِيمِ حَتَّى يَصِلَ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيْقِ إِلى اللهِ وَيَفْتَحَ لَهُ فِيْهَا الفَتْحَ الخَاصَّ أّوْ يَمُوْتَ فِي طََرِيْقِ طَلَبِهِ فَيُرجَى لَهُ الوُصُولُ إِلى مَطْلَبِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ}.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيْرَةٍ مِمَّنْ أَدْرَكَهُ الأَجَلُ وَهُوَ حَرِيْصٌ طَالِبٌ لِلْقُرْآنِ أنَّهُ رُؤِيَ بِعْدِ مَوْتِهِ وأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي تَكْمِيْلِ مَطْلُوبِهِ وأنّهُ يَتَعَلَّمُ فِي البَرْزَخِ فإِنَّ العَبْدَ يَمُوْتُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ.
ومن النَّاس من يكون سيد عمله الذكر وقَدْ جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله فمتي فتر عَنْهُ أو قصر رأي أنه قَدْ غبن وخسر.
ومن النَّاس من يكون سيد عمله وطريقة الصَّلاة فمتي قصر في ورده منها أو مضي عَلَيْهِ وَقْت وَهُوَ غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عَلَيْهِ وقته وضاق صدره.
ومن النَّاس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات قَدْ فتح له في هَذَا وسلك منه طريقاً إلى ربه.
ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ طَرِيْقُهُ الصَّوْمَ فَهُوَ مَتَى أَفْطَرَ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ وَسَاءَتْ حَالُهُ.
ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ طَرِيْقُهُ تِلاَوَةَ القُرْآنِ وَهِيَ الغَالِبُ عَلَى أَوْقَاتِهِ وَهِيَ أَعْظَمُ أَوْرَادِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ طَرِيْقُهُ الأَمْرَ بالمَعْرُوْفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ قَدْ فَتَحَ اللهُ لًهُ فِيْهِ وَنَفَذَ مِنْهُ إِلى رَبِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ طَرِيْقُهُ الَّذِي نَفَذَ فِيْهِ الحَجَّ والاعْتِمَارَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ طَرِيْقُهُ قَطْعَ العَلائِقِ وتَجْرِيْدَ الهِمَّةِ وَدَوَامَ الْمُرَاقَبَةِ وَمُرَاعَاةَ الخَوَاطِرِ وحِفْظَ الأَوْقَاتِ أَنْ تَذْهَبَ ضَائِعَةً.
وَمِنْهُمْ جَامَعُ المَنْفَذِ السَّالِكُ إِلى اللهِ فِي كُلِّ وَادٍ الوَاصِلُ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ فَهُوَ جَعَلَ وَظَائِفَ عُبُودِيَّتِهِ قِبْلَةَ قَلْبِهِ وَنَصْبَ عَيْنِهِ يَؤُمُّهَا أَيْنَ كَاَنَتْ وَيَسِيْرُ معها حيث سارت قَدْ ضرب مَعَ كُلّ فريق بسهم فأين كانت العبودية وجدته هناك إن كَانَ علم وجدته مَعَ أهله أو جهاده وجدته في صف المجاهدين أو صلاة وجدته في القانتين أو ذكر وجدته في الذاكرين أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين أو محبة ومُرَاقَبَة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحسنين المنيبين.
يَدِيْنُ بِدِيْنِ العُبُوْدِيَّةِ أنّي اسْتَقَلَّتْ رَكَائِبُهَا وَيَتَوجَّهُ إِلَيْهَا حَيْثُ اسْتَقَرَّتْ مَضَارِبُهَا لَوْ قِيْلَ لَهُ: مَا تُرِيْدُ مِنَ الأَعْمَالِ؟ لَقَالَ أُرِيْدُ أَنْ أُنفِّذَ أَوَامِرَ رَبِّيْ حَيْثُ كَانَتْ وأَيْنَ كَانَتْ جَالِبَةً مَا جَلَبَتْ مُقْتَضِيَةً مَا اقْتَضَتْ جَمَعَتْنِيْ أَوْ فَرَّقَتْنِيْ.
لَيْسَ لِي مُرَادٌ إِلاَّ تَنْفِيذُها والقِيَامُ بِأدَائِهَا مُرَاقِباً لَهُ فِيْهَا عَاكِفاً عَلَيْهِ بِالرُّوْحِ والقَلْبِ وَالبَدَنِ وَالسِّرّ قَدْ سَلَّمْتُ إِلَيْهِ المَبِيْعَ مُنْظَِراً مِنْهُ تَسْلِيْمَ الثَّمَنِ: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} فَهَذَا هُوَ الْعَبْدُ السّالِكُ إِلى رَبِّهِ النّافِذُ إِلَيْهِ حَقِيْقَةً.
ومعني النفوذ إليه أن يتصل به قَلْبهُ ويعلق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه فيسلوا به عن جَمِيع المطالب سواه فلا يبقي في قَلْبهِ إِلا محبة الله وأمره وطلب التقرب إليه، وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.

.فصل في جزاء من استغل وقته في طاعة مولاه:

فإذا سلك الْعَبْد علي هَذَا الطَرِيق عطف عَلَيْهِ ربه فقربه واصطفاه وأخذ بقَلْبهُ إليه وتولاه في جَمِيع أموره في معاشه ودينه وتولي تربيته أحسن وأبلغ مِمَّا يرَبِّي الوالد الشفيق ولده فإنه سُبْحَانَهُ القيوم الْمُقِيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها.
فَكَيْفَ تَكُون قيوميته بمن أحبه وتولاه واثره علي ما سواه ورضي به من النّاسِ حَبِيْباً وَرَبّاً وَوَكِيْلاً وَنَاصِراً وَمُعِيْناًً وَهَادِياً فَلَوْ كَشَفَ الغِطَاءُ عَنْ ألطَافِهِ وَبِرِّهِ وَصُنْعِهِ لَهُ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُ وَمِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُ لَذَابَ قَلْبُهُ مَحَبَّةً لَهُ وَشَوْقاً إِلَيْهِ وَتَقَطّعَ شُكْراًً لَهُ.
وَلَكِنْ حَجَبَ القُلُوبَ عَنْ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ إِخْلادُهَا إِلى عَالَمِ الشَّهَوَاتِ والتَّعَلُّقِ بِالأسْبَابِ فَصَدَّتْ عَنْ كَمَالِ نَعِيْمِهَا وَذَلِكَ تَقْدِيْرُ العَزِيْزِ العَلِيْمِ وإِلاَّ فَأيُّ قَلْبٍ يَذُوْقُ حَلاَوَةَ مَعْرِفَةِ اللهِ وَمَحَبَّتِهِ ثُمَّ يَرْكَنُ إِلى غَيْرِهِ وَيَسْكُنُ إِلى مَا سِوَاهُ هَذَا مَا لاَ يَكُوْنُ أَبَداً.
ومن ذاق شَيْئاً من ذَلِكَ وعرف طريقاً موصلة إلى الله ثُمَّ تركها وأقبل علي إرادته وراحاته وشهواته ولذاته وقع في آثار المعاطب وأودع قَلْبَهُ سجون المضايق وعذب في حياته عذاباً لم يعذب به أَحَداً من العالمين، فحياته عجز وغم وحزن وموته كدر وحسرة ومعاده أسف وندامة قَدْ فرط عَلَيْهِ أمره وشتت عَلَيْهِ شمله وأحضر نَفْسهُ الغموم والأحزان.
فلا لذة الجاهلين ولا راحة العارفين يستغيث فلا يغاث ويشتكي فلا يشكي فقَدْ ترحلت أفراحه وسروره مدبرة وأقبلت آلامه وأحزانه وحسراته فقَدْ أبدل بأنسه وحشة وبعزه ذلاً وبغناه فقراً وبجمعيته تشتيتاً وأبعدوه فلم يظفر بقربهم وأبدلوه مكَانَ الأنس إيحاشاً.
ذَلِكَ بأنه عرف طريقه إلى الله ثُمَّ تركها ناكباً مكباً علي وجهه فأبصر ثُمَّ عمي وعرف ثُمَّ أنكر وأقبل ثُمَّ أدبر ودعي فما أجاب وفتح له فولي ظهره الْبَاب قَدْ ترك طَرِيق مولاه وأقبل بكليته علي هواه.
فلو نال بعض حظوظه وتلذذ براحاته وشؤونه فهو مقيد الْقَلْب عن انطلاقه في فسيح التَّوْحِيد وميادين الأنس ورياض المحبة وموائد القرب قَدْ انحط بسبب إعراضه عن إلههِ الحق إلى أسفل سافلين وحصل في عداد الهالكين فنار الحجاب تطلع كُلّ وَقْت فؤاده وإعراض الكون عَنْهُ – إذ أعرض ربه – حائل بينه وبين مراده.
فهو قبر يمشي علي وجه الأرض وروحه في وحشة من جسمه وقَلْبهُ في ملال من حَيَاتهُ يتمني الموت ويشتهيه ولو كَانَ فيه ما فيه حتى إذا جاءه الموت علي تلك الحال والعياذ بِاللهِ فلا تسأل عما يحل به من الْعَذَاب الأليم بسبب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق وإحراقه بنار البعد من قربه والإعراض عَنْهُ وقَدْ حيل بينه وبين سعادته وأمنيته.
فَلَوْ تَوَهَّمَ العَبْدُ المِسْكِيْنُ هَذِِهِ الحالَ وَصَوَّرْتها لَهُ نَفْسُهُ وَاَرَتْهُ إِيَّاهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا لتَقَطَّعَ وَاللهِ قَلْبُهُ وَلَمْ يَلْتَذَّ بِطَعَامٍ وَلاَ شَرَابٍ وَلَخََرَجَ إِلى الصُّعْداتِ يَجْأرُ إِلى اللهِ وَيَسْتَغِيْثُ بِِهِ وَيَسْتَعْتِبُهُ فِي زَمَنِ الاسْتِعْتَابِ هَذَا مَعَ أَنَّهُ إِذا آثَرَ شَهَواتِهِ وَلِذَّاتِهِ الْفَانِيَةَ الّتِي هِيَ كخَيَالِ طَيْفٍ أَوْ مُزْنَةِ صَيْفٍ نَغَّصَتْ عَلَيْهِ لذَّتَها أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا وَحِيْلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَقْدَرَ مَا كَانَ عَلَيْهَا وتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
وهَذَا هُوَ غِبُّ إعراضه وإيثار شهواته علي مرضاة ربه يعوق القدر عَلَيْهِ أسباب مرداه فيخسر الأمرين جميعاً فيكون معذباً في الدُّنْيَا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يقسم له وإن قسم له منه شيء فحشوه الخوف والحزن والنكد والألم فهم لا ينقطع وحَسْرَة لا تنقضي وحرص لا ينفد وذل لا ينتهي وطمَعٌ لا يقلع وهَذَا في هذه الدار.
وأما في البرزخ فأضعاف أضعاف ذَلِكَ قَدْ حيل بينه وبين ما يشتهي وفاته ما كَانَ يتمناه من قرب ربه وكرامته ونيل ثوابه وأحضر جَمِيع غمومه وأحزانه، وأما في دار الجزاء فسجن أمثاله من المبعدين المطرودين فواغوثاه ثُمَّ واغوثاه بغياث المستغيثين وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
فَمَنْ أعْرَضَ عَنْ اللهِ بالكُليَّةِ أعْرَضَ اللهُ عَنْهُ بالكُلَّيَّةِ وَمَنْ أعْرَضَ اللهُ عَنْهُ لَزِمَهُ الشّقَاءُ والبُؤْسُ والبَخْسُ فِي أَحْوالِهِ وأعمَالِهِ وقَارَنَهُ سُوءُ الحَالِ وَفَسَادٌ فِي دِيْنِهِ ومَاَلهِ ِفَإِنَّ الرّبَّ إِذَا أعْرَضَ عَنْ جِهَةٍ دَارَتْ بِهَا النُّحُوسُ وأظْلَمْتْ أرْجاؤُهَا وانْكَسَفَ أنوارُهَا وَظَهَرَ عَلَيْهَا وَحْشَةُ الإِعْرَاضِ وَصَارَتْ مَأْوَى لِلشَّيَاطِيْنَ وَهَدَفاً لِلشُّرُورِ وَمَصّباً لِلْبََلاءِ.
فَالمَحْرُوْمُ كُلَّ المَحْرُوْمِ مَنْ عَرَفَ طَرِيقاً إِلَيْهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْهَا أَوْ وَجَدَ بَارِقَةً مِنْ حُبِّهِ ثُمَّ سُلِبَها لَمْ يَنْفُذْ إِلى رَبَّهِ مِنْها خُصُوصاً إِذَا مَالَ بِتِلْكَ الإِرَادَةِ إِلى شَيْءٍ مِنْ اللَّذَاتِ وانْصَرَف بجُمْلَتِهِ إِلى تَحْصِيْلِ الأغْرَاضِ والشّهَوَاتِ عاكِفَاً عَلَى ذَلِكَ فِي لَيْلِهِ وَنَهارِهِ وَغُدُوَّهِ وَرَوَاحِهِ هابِطاً مِنَ الأوْجِ الأعْلَى إِلى الحَضِيضِ الأدْنَى.
قَدْ مضت عَلَيْهِ برهة من أوقاته وكَانَ همه الله وبغيته قربه ورضاه وإيثاره علي كُلّ ما سواه علي ذَلِكَ يصبح ويمسي ويظِلّ ويضحي وكَانَ الله في تلك الحال وليه لأنه ولي من تولاه وحبيب من أحبه ووالاه.
فأصبح في سجن الهوى ثاوياً وفي أسر الْعَدُوّ مقيماً وفي بئر المعصية ساقطاً وفي أودية الحيرة والتفرقة هائماً معرضاً عن المطالب العالية إلى الأغراض الخسيسة الفانية كَانَ قَلْبهُ يحوم حول العرش فأصبح محبوساً في أسفل الحُش:
فَأَصْبَحَ كَالبَازِ المُنَتَّفِ رِيْشُهُ ** يَرَي حَسَراتٍ كُلَّمَا طَارَ طَائِرُ

وقَدْ كَانَ دَهْراً فِي الرِّيِاضِ مُنَعَّماً ** عَلَى كُلِّ مَا يَهْوَى مِنَ الصَّيْدِ قَادِرُ

إِلى أَنْ أصَابَتْهُ مِنَ الدّهْرِ نَكْبَةٌ ** إِذَا هُوَ مَقْصُوصُ الجناحَيْنِ حَاسِرُ

فَيَا مَنْ ذَاقَ شَيْئاً مِنْ مَعْرِفَةِ رَبِّهِ وَمَحَبَّتِهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْهَا واسْتَبْدَلَ بِغَيْرِها مِنْهَا يَا عَجَباً لَهُ بأيَّ شَيْءٍ تَعَّوَض وكَيْفَ قَرَّ قَرارُهُ فَما طَلَبَ الرُّجوعَ إِلى أحنِيَتِهِ وَمَا تَعَرّض وَكَيْف اتّخَذَ سِوَى أحنِيَتِهِ سَكناً وجَعَلَ قََلبَهُ لِمَنْ عَادَاهُ مَولاَهُ مِنْ أجْلِهِ وطَناً أمْ كَيْفَ طَاوَعَهُ قَلْبُهُ عَلَى الاصْطِبَارِ وَوَافَقَهُ عَلَى مُسَاكَنَةِ الأغْيَارِ.
فَيَا مُعْرِضاً عَنْ حَيَاتِهِ الدَائِمَةِ وَنَعِيْمِهِ المُقِيمِ وَيَا بَائِعاً سَعَادَتَهُ العُظْمَى بِالعَذَابِ الألْيِمِ وَيَا مُسْخِطاً مَنْ حَيَاتًهُ وَرَاحَتُهُ وَفَوْزُهُ فِي رِضاهُ وطَالِباً رضى مَنْ سَعادَتُهُ فِي إِرْضاءِ سِوَاهُ إِنّمَا هِيَ لَذّةٌ فَانِيةٌ وشَهْوَةٌ مُنْقِضَيةٌ تَذْهَبُ لذّاتُها وتَبَقَى تَبِعَاتُهَا فَرَحُ سَاعَةٍ لاَ شَهْرٍ وغَمُّ سَنَةٍ بَلْ دَهْرِ طَعَامٌ لَذْيِذٌ مَسْمُومٌ أوَّلُهُ لذّةٌ وآخِرُهُ هَلاَكُ.
فالعَالِم عَلَيْهَا والساعي في توصيلها كدودة القز يسد علي نَفْسهُ المذاهب بما نسج عَلَيْهَا من المعاطب فيندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة فطوبي لمن أقبل علي الله بكليته وعكف عَلَيْهِ بإرادته ومحبته.
فإن الله يقبل عَلَيْهِ بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته وإن الله سُبْحَانَهُ إذا أقبل علي عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاتها وتنورت ظلماتها وظهر عَلَيْهِ آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال.
وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ أَهْلُ المَلأِ الأعْلَى بِالمَحَبّةِ والمُوالاَةِ لأنَّهُمْ تَبَعٌ لِمَوْلاهُمْ فَإِذَا أحَبَّ عَبْداً أحبُّوهُ وإِذَا وَالَى وَلِيّاً وَالوْهُ إِذَا أحَبّ اللهُ الْعَبْدَ نَادَى يَا جِبْرائيلُ إِنّي أُحِبُّ فُلاناً فَأَحَّبَّهُ فيُنادِي جِبْرائيلُ فِي السَّماءِ إنّ اللهَ يُحِبُّ فُلاناً فَأَحِبُّوهُ فيُحِبُّهُ أَهْلُ السّماءِ ثُمَّ يُحِبُّهُ أَهْلُ الأرْضِ.
فَيُوْضَعُ لَهُ القَبُولُ بَيْنَهُمْ ويجْعَلُ اللهُ قُلُوبَ أوْلِيائِهِ تَفِدُ إِلَيْهِ بالوُدِّ والمَحَبّةِ والرَحْمَةِ ونَاهِيْكَ مَنْ يَتوجَّهُ إِلَيْهِ مالِكُ المُلكِ ذُو الجَلاَلِ والإِكْرَامِ بِمَحَبَّتِهِ ويُقْبِلُ عَلَيْهِ بأنْوَاعِ كرَامَتِهِ ويَلْحَظُهُ المَلأٌ الأعْلَى وأَهْلُ الأرْضِ بالتَّبْجِيلِ والتّكريمِ وَذَلِكَ فضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ واللهُ ذُوْ الفَضْلِ العَظِيمِ.
وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.